الخميس، 23 أغسطس 2012

هل تصبح دراسات الرأي العام الافتراضي البديل الأنسب؟

 هل تصبح دراسات الرأي العام الافتراضي البديل الأنسب لدراسات الرأي العام بتكلفتها العالية وصدقيتها المتراجعة؟ تعاني دراسات الرأي العام من عدة صعوبات تجعل هذه الدراسات تتسم بدرجة عالية من النسبية وقد لا تكون معبرة عن الرأي العام بصورة حقيقية، بالإضافة لصعوبات التكلفة التي تجعل من إجراء مسوح ودراسات الرأي العام – بعيدا عن الصعوبات المنهجية - أكثر صعوبة. وفيما يلي، نتناول أهم مشكلات بحوث ودراسات الرأي العام، في محاولة لتوضيح استجابات حقل دراسات الرأي العام الافتراضي لتجاوزها والتغلب عليها.

 

الرأي العام لم يعد ظاهرة كامنة

من المعروف في أدبيات دراسة الرأي العام أنه يظل كامنا حتى تظهر مسألة أو قضية معينة تظهر عادة حينما يوجد تصادم أو ظاهرة رفض، غير أن هذه الخاصية لم تعد قائمة فيما يتعلق بحقل دراسات الرأي العام الافتراضي. فمن خلال خبرتي المتواضعة في هذا المجال وجدت أن كل القضايا التي نحتاج التعرف عليها في المستقبل مثارة بالفعل، وطرح أسئلتها يبدأ بالفعل قبل وجود حدث مركزي هام يؤثر على مصالح الناس.
ففي المنصات المختلفة للإعلام الاجتماعي؛ والمتمثلة في الشبكات الاجتماعية العامة غير الوظيفية، ومساحات التعليق على المحتوى، وشبكات المحتوى المحدود، والمنتديات، هذه المنصات تضم نخبة كبيرة من المثقفين الذين ينتجون فاعليات متعددة تتعلق بمجالات اهتمامهم. هذه الفاعليات تتضمن ردودا من بقية المستخدمين الموجودين في دوائر اهتمامهم، كما تتضمن إعادة تدوير للمحتوى الذي ينشرونه بطرق مختلفة، وتكون وسائل إعادة التدوير أو الردود القائمة وسيلة لتحديد الفاعلين الأكثر اهتماما بقضية بعينها. ناهيك عن أن بعض المنصات تتضمن أكثر من أداة لبناء جماعات الاهتمام، وبخاصة الشبكات الاجتماعية والمنتديات التي تعد الإطار الأمثل لعملية بناء هذه الجماعات Community Building، وهو ما يتيح بناء قاعدة بيانات كبرى أو مرصد متخصص لكل قضية على حدة.
ومن الخواص الأكثر إلهاما في مجال دراسات الرأي العام الافتراضي أنه على عكس المتصور في دراسات الرأي العام الحقيقي، يمكن أن يكشف الرأي العام عن نفسه في أي حالة تأخذها القضية، سواء أكانت تمثل فرصة لمصالح جماعات الاهتمام - التي ستتحول إلى مجتمعنا البحثي في مرحلة فنية لاحقة – كما يمكن أن نتابعها حتى لو كانت القضية موضوع الرصد تمثل تفاعلا سلبيا مع مصالح هذه الجماعات المهتمة.
فمن السائد – كقناعة - في دراسات الرأي العام (الحقيقي) أنه يمكن أن يكشف الرأي العام عن نفسه حينما يكون العامل المؤثر أو التعبير عن الاتجاه بالأفعال ذات نتائج طيبة أكثر من النتائج السلبية. غير أن هذه القناعة تتحطم أمام الحالة الموضوعية التي نجد عليها استجابات وتغذيات جماعات الاهتمام، وهي التغذيات التي تنتج محتوى قابل للدراسة؛ سواء أكانت الظاهرة المحتملة تمثل تهديدا أو فرصة من وجهة نظر جماعات الاهتمام هذه. والأمر في هذه الحالة أقرب لاستطلاع رأي النخبة، وهو أمر له مزايا بقدر ما يحمل من تحيزات. لكن هذه التحيزات - على الأقل – يمكن أن تزودنا بتفاصيل ونتوءات طيبة فيما يتعلق بصياغة أسئلة البحث أو فرضياته. هذا إذا لم تكن هذه التحيزات قيمة في ذاتها تستحق الدراسة باعتبارها توفر الأساس الموضوعي للاستقطاب المستقبلي للرأي العام الافتراضي.



 

دراسة عملية تشكل الرأي العام ممكنة بفاعلية
 
من المعروف أن عملية دراسة تشكل الرأي العام وتحولاته تعتبر عملية صعبة، وبخاصة مع اللجوء للإجراءات البحثية الملائمة لدراسة هذه الظاهرة. فمثل هذه المتابعة تحتاج لتتابع مراحل رصد الرأي العام نفسها على فترات دورية تجاه نفس القضية أو تجاه حزمة من القضايا المجمعة، ومقارنة نتائج هذه الدراسات الدورية بنتائج تحليل مضمون وتحليل خطاب مصادر تشكيل الرأي العام من صحافة وقنوات فضائية، لمعرفة توجهات الرأي العام في أعقابها، وهو ما يعني ضمنا تحديد قنوات التأثير الفعال على الرأي العام في كل مرحلة من مراحل تحوله. هذه الصعوبة تكاد تختفي فيما يتعلق بدراسات الرأي العام الافتراضي.
المعروف أن الرأي العام يتكون عبر عدة مراحل تبدأ بمرحلة الإحساس والإدراك حيث يدرك العلاقة بين مصلحته وبين المدخلات التي تحاول التأثير عليها. وبعد تبلور هذا الإدراك تبدأ المرحلة الثانية المتمثلة في مرحلة تشكل الرأي الفردي ومحاولة نشره، ويلي ذلك أحد أهم مراحل تشكل الرأي العام المتمثلة في مرحلة التدافع بين رأي الفرد وآراء المحيطين به، حيث يبدأ الجمع في التحزب حول وجهات نظر محددة، ويحسم النقاش حجم هذه المساحات الاجتماعية المؤيدة لوجهة نظر أو رؤية من الرؤى، وهذه الأخيرة هي مرحلة تبلور الرأي العام.
وتكمن قيمة الواقع الافتراضي في دراسة عملية تشكل الرأي العام الافتراضي فيما يلي:
أ – تمتلك وسائل التعبير عن الرأي العام الافتراضي خاصية لا نكاد نتحصل على مثيلها في الواقع الحقيقي؛ إلا وهي خاصية "الطابع الزمني" أو "Time Stamp". وقيمة هذا الطابع الزمني أنه يمكنني بدرجة دقة عالية من متابعة تولد الآراء المختلفة، كما أنه يمكنني من الرصد الدقيق لتحولات الرأي العام الافتراضي. وغني عن البيان أن هذه الخاصية تتعدى في فائدتها هاتين الخدمتين، وتفاصيل ما تقدمه من نفع تختلف من دراسة لأخرى ومن موضوع لآخر، لكنها تمكن – بصفة عامة – من تحديد تأثير عنصر الزمن – على الظاهرة موضوع الدراسة.
ب – القيمة المهمة الأخرى التي توفرها لي البيئة الافتراضية تتمثل في ذلك الدمج المذهل والتزامن الدقيق بين الرأي العام الافتراضي وبين مصادر تشكله. فميزة الروابط التشعبية Hyper Linking وميزة التخزين طويل المدى اللذان يعتبران القيمة الأكبر للإنترنت تمكنان الناس من استدعاء أي نوع من المحتوى ووضعه في سياقه النقاشي/الحواري، سواء أكان هذا المحتوى نص أو صوت أو صورة أو فيديو أو حتى تاريخ نقاشي. وفي هذا السياق، فإن لدينا سياق قدرة مستخدم الإنترنت على تحويل المحتوى من وسيط إعلامي إلى آخر، حيث يمكنه تسجيل لقاء إذاعي أو تليفزيوني وبثه على الإنترنت عبر رابط دائم يمكن استخدامه عبر مختلف منصات وسائط التعبير عن الرأي العام الافتراضي. ومن هنا يمكن لنا متابعة تأثير مصادر تشكل الرأي العام على عملية بناء وتطور وتغير الرأي العام الافتراضي، بل ويمكننا الحديث عن ذلك التأثير من خلال وزن نسبي بدرجة صدقية عالية.



 

سهولة دراسة العناصر المؤثرة على الرأي العام الافتراضي

تمثل العوامل الثقافية إطارا حاكما للرأي العام؛ ويحدث التدافع في هذا الصدد بين روافد متعددة كالعلاقة بين الموروث والوافد، أو العلاقة بين التقاليد والأعراف وتداعيات تطور المجتمع الذي تظهر فيه ظاهرة الرأي العام. ويتأثر الرأي العام قطعا تأثرا كبيرا بالنسق السياسي السائد في محل تشكله وظهوره للعلن؛ حيث أن التدافع الإعلامي وحالة الحوار أو الصدام أو انعدام هذه العوامل جميعها يؤثر في بناء الرأي العام. كما أن الرأي العام يتأثر نوعيا بطبيعة نوعية الأحداث والمشكلات التي تحيله من حالة الكمون لحالة العلن، فضلا عن تأثير الإعلام والدعاية أو الشائعات. ويميل بعض الخبراء لاعتبار أن العوامل النفسية وحتى الفسيولوجية تؤثر على تشكيل الرأي العام؛ وإن كان الباحث يرى أن الاعتبارات النفسية والفسيولوجية عناصر ذات تأثير فردي، ولا يمكن اعتبارها إلا في حالة وجود ظاهرة نفسية أو فسيولوجية.
ويزودنا وعاء الرأي العام الافتراضي بإمكانية دراسة هذه العوامل جميعها من خلال ما يتيحه لنا من إمكانات الفصل بين المتغيرات التي تنتج الرأي العام في صورته الأخيرة (الأخيرة نسبيا بطبيعة الحال). حيث يمكننا بسهولة وضع فرضيات عن المتغيرات المنخرطة في حالة التدافع في عالم الأفكار كالمقابلة بين الأصالة والمعاصرة، أو الموروث والوافد، أو التيارات الفكرية المختلفة، أو حتى تأثير السمات الشخصية الأكثر فرادة كعناصر الشخصية والقدرة على التأثير في الرأي العام.
وإذا كانت دراسات الرأي العام في اتجاهها العام لا يمكنها تحديد تأثير العوامل النفسية أو الفسيولوجية، فإن قدرة وعاء الرأي العام الافتراضي على الفصل بين ظاهرة قيادة الرأي وصناعته وبين ظاهرة الرأي العام الافتراضي نفسها؛ فإن هذا يمنحنا قدرة هائلة على دراسة الشخصيات التي تتولى صناعة الرأي العام، ولداعي مراعاة البعد القانوني؛ فإن الخريطة الذهنية Profile التي تمكننا من دراسة العناصر النفسية والفسيولوجية يمكن أن تتسم بالمشروعية البعيدة تماما عن عملية انتهاك الخصوية التي هي عملية إجرامية أخلاقيا قبل أن تكون عملية إجرامية قانونا.
 


اعتبار التكلفة

لو نظرنا لاعتبار التكلفة لوجدنا أن دراسة الرأي العام تحتاج إلى إعداد استمارة مبدئية، ثم اللجوء لخبراء لتحكيمها، ثم اختبارها في دراسة استطلاعية، ثم العودة بها للخبراء بعد الدراسة الاستطلاعية لتحليل عيوبها، ثم تعديل هذه الاستمارة، ثم طباعتها، وتأتي بعد ذلك أصعب المراحل التي تتمثل في الحصول على عينة ممثلة للمجتمع البحثي، وتأتي من خلال الأجهزة المتخصصة أو من خلال اللجوء لأقرب بديل كافي يغني عن الوصول لعينة حقيقية تناسب أغراض البحث، سواء أكانت عينة عشوائية أو طبقية أو غيرها من أنواع العينات التي يلائم كل منها طبيعة السؤال البحثي الذي على الاستمارة وتطبيقها أن يجيبا عليه. وبعد ذلك على الباحث استئجار باحثين مساعدين للوصول بالاستمارة إلى المبحوثين، أو الاتصال بالمبحوثين للحصول على إجاباتهم على أسئلتها، ثم تكويد هذه الاستمارات، ثم تحليلها؛ وهو الإجراء الذي يحتاج لنسخة كاملة من تطبيقات تحليلية متخصصة في فحص وتحليل معطيات العلوم الاجتماعية، وأخيرا تأتي عملية كتابة التقرير النهائي، هذا بالطبع مع افتراض تجاوز عقبة موافقة الجهات المسؤولة عن مراقبة عملية جمع المعلومات من الجماهير.
اعتبار التكلفة يقف حائلا دون اتساع نطاق دراسات الرأي العام. وفي هذا السياق، تقف دراسات الرأي العام الافتراضي كبديل واعد يغني المؤسسات البحثية عن اللجوء لقطاع كبير من هذه السلسلة الطويلة من الإجراءات المكلفة.
فالمجتمع البحثي – في الواقع الافتراضي - متاح ومصنف بصورة أولية؛ بما يساعد على إجراء الدراسة الاستطلاعية. وتجدر الإشارة إلى أن التصنيف الذي تحدثنا عنه للمجتمع البحثي هو السبيل الأنجع للوصول إلى دراسة سليمة وقانونية. فجمع البيانات الافتراضية يحتاج إلى تجاوز عقبة قانونية مهمة تسمى عقبة احتمال انتهاك الخصوصية. والقيمة الأساسية لما نسميه فهرسة وتصنيف المجتمع البحثي هنا أنها وسيلة لتجاوز الحسابات الشخصية والوصول إلى ما يمكن تسميته "المجال العام الافتراضي"؛ حيث لا مجال لوجود خصوصية تطغى على المحتوى الذي ينتجه أعضاء الشبكات الاجتماعية.
كل ما على الباحث في هذا الصدد أن يقوم بعملية إعداد بسيطة من خلال بناء مرصد يجمع هذا التصنيف الأولي، وأن يحدد بدقة صيغة الأسئلة التي يحتاج الإجابة عليها، ثم يحدد فئات الرصد التي تحقق هدفه من الدراسة؛ ثم يشرع في العمل الفني البحثي.
 


اعتبار صدقية التعبير عن المجتمع البحثي 
من الظواهر بالغة الأهمية التي تطعن – من وجهة نظر الباحث – في نتيجة دراسات "الرأي العام الحقيقي" أن الباحث المسؤول عن المشروع البحثي يكون إشرافه على سير الإجراءات في مرحلة جمع البيانات إشرافا صوريا. فهو لا يمكنه توثيق مساحة لقاء الباحث المساعد مع المبحوث، ولا يمكنه التأكد يقينا من أن الباحث المساعد قد التقى أفراد العينة المعبرة عن المجتمع البحثي المستهدف، ولا يمكنه الجزم بان الباحث التقى مبحوثين فعلا أو أنه قام بتسويد الاستمارات بنفسه. ويزداد الأمر سوءا في حال كون الاستمارة خلو من البيانات الشخصية للمبحوث، وهو الأمر الغالب في دراسات الرأي العام "الحقيقي".
الأمر يختلف عن هذا تماما في سياق دراسات الراي العام الافتراضي. فالعلاقة وثيقة بين الباحث الرئيس وبين المجتمع البحثي. وحتى مع وجود باحث مساعد، فإن قواعد البيانات الخاصة بالمرصد تجعله قادرا على متابعة عينة من إفادات المجتمع البحثي، إن بصورة فردية أو بصورة كلية جماعية، وهو ما يجعل البحث أكثر دقة في التعبير عن الرأي العام.
والأكثر إفادة في هذا الصدد أن الباحث يكون قادرا على التمييز بين المصادر المحتملة لإنتاج دراسة متحيزة. فالرأي العام الافتراضي عرضة للتأثر بمتغيرات التكتل التعبيري؛ الذي يسميه البعض اللجان الإليكترونية؛ إن المؤيدة أو المعارضة. هذا التكتل التعبيري يمكن اكتشافه بسهولة عبر التأكد من سلامة عضوية أعضاء أي منصة افتراضية. وهذا يكون من أدوار المشرفين على المرصد الذي يمثل قاعدة البيانات الأكبر في هذا النوع من الدراسات.